الحاجب المنصور الذي حكم الأندلس ربع قرن

الحاجب المنصور الذي حكم الأندلس ربع قرن دون أن يعتلي كرسي الخلافة!

  • الحاجب المنصور الذي حكم الأندلس ربع قرن دون أن يعتلي كرسي الخلافة!

اخرى قبل 5 سنة

الحاجب المنصور الذي حكم الأندلس ربع قرن دون أن يعتلي كرسي الخلافة!

محمد أحمد مرسي

في عام 355 هجريًا، أوشكت شمس عبد الرحمن الناصر – ثامن أمراء بني أمية في الأندلس – على المغيب، وبخلاف أنه أول من أعلن الخلافة في قرطبة، فإنه الوحيد الذي أوسع أعمامه له الطريق إلى الحُكم، في سابقةٍ هي الأولى في التاريخ الإسلامي، بأن يرث الحفيد عرش جدّه في حياة أبنائه.

ولم تكن مُبايعة الشيوخ له حينها زهدًا في السُلطة، بقدر ما كانت هروبًا وخوفًا من الضعف الذي ضرب جنبات الدولة الأموية وأذن بقُرب زوالها بعد نحو 200 عامٍ من تأسيسها، لكنّ الخليفة الناصر كان له نصيب من اسمه؛ فأخمد التمردات ووحّد دولته، ثم خاض حروبًا ضد الممالك المسيحية في الشمال، انتهت بإجبار خصومه الملوك على السير إليه في قُرطبة، وتقبيل يده على مشهدٍ من الناس.

أمجاد الخليفة الناصر أوشكت أن تؤول إلى واحدٍ من 11 ولدًا أنجبهم، ووقع الاختيار على الحكم المستنصر صاحب الخمسين عامًا الذي لم تكن له ذرية حتى ذلك الوقت، وبالرغم المخاوف التي راودت الناصر نفسه بأنّ فراغ الحُكم بعد وفاة المستنصر قد يُعيد الدولة إلى التمردات؛ إلا أنّ المفارقة كانت أنّ الابن الذي أنجبه المستنصر  بعد ذلك – هشام المؤيد بالله – تسبب في ضياع مُلك الأمويين، بعدما استولى حاجبه المنصور محمد بن أبي عامر على دولته، وربما تسبب بشكل ما في سقوط الأندلس.

محمد بن أبي عامر.. المجنون الذي صدح «سأملك الأندلس»

حين دخل طارق بن زياد الأندلس لأول مرة عام 92 هجريًا؛ كانت قبيلة المعافري اليمنية التي ينتسب لها محمد بن أبي عامر ضمن الجيش الضئيل الذي أسس الحكم الإسلامي الوليد، وشرف النسب لا يتوقف عند الجدّ الخامس الذي جاء فاتحًا، فأبوه عبد الله بن أبي عامر أحد علماء الجزيرة الخضراء – جنوب إسبانيا حاليًا – وفقهائها، الذي اشتهر بزهده في مجالس السلاطين، لكنّ الطفل الذي وُلد عام 327 هجريًا، ورث فقه أبيه وسيرة أجداده، لكنّ  طموحه ورغبته في مُلك الأندلس غلبت عليه، فارتحل إلى قرطبة – درة الدنيا آنذاك – طلبًا للعلم.

شخصية ابن أبي عامر المليئة بالطموح، جلبت عليه سخرية رفاقه حين أظهر لهم اعتداده بنفسه وتطلعه إلى حكم الأندلس وقيادة الجيش، وبحسب ما ذكره الوزير والمؤرخ الأندلسي لسان الدين بن الخطيب في كتابه «أعمال الأعلام»، فإنّ العامري في طريق رحلته إلى قرطبه أخبر رفاقه الذين صحبوه في سفره بأنه لم يأتِ لطلب العلم فقط، إنما ليصبح حاجبًا (الرجل الثاني في الدولة)، بل إنه تخطى ذلك حين قال: «سأملك الأندلس وأقود العسكر وينفذَ فيهما حُكمي».

وبقية القصة يذكرها لسان الدين بن الخطيب قائلًا: «طلب محمد بن أبي عامر من زملائه حين سخروا منه أن يتمنّوا عليه، فطلب الأول ولاية قرطبة، وطلب الثاني توليته حِسبة السوق، وطلب الثالث قضاء ولاية كورة، أما الرابع فتطاول عليه بالكلام البذيء»، تقول الرواية في صفحاتها الأخيرة إنّه لما وصل لمنصب الحاجب، حقق لرفاقه القدامى أمنياتهم، عدا الأخير الذي غرّمه مالًا باهظًا.

وفي جامع قرطبة الكبير؛ جذب الشاب القادم من ريف الجزيرة الخضراء أنظار الشيوخ إليه بعلمه بالتاريخ وأحوال العرب وحفظه الشعر وحبّه للفقه، فنال الإجازات العلمية واحدة تلو الأخرى، ورغم عزوفه عن حياة الغناء التي أسرف فيها أصحابه، إلا أنّ قدره ساقه يومًا إلى دار المدنيات للغناء التي أنشأها زرياب، حيث وقع بصره على جاريةٍ جاء في وصفها أنه اجتمع لديها جمال الشكل وعذوبة الصوت، وبهاء الطالع، لكنّ الفتى الوسيم آثر الهرب، قبل أن يعود بعدها بأيامٍ ليسأل عنها، لكنه فوجئ بأن صاحبها قد باعها، فأوقدَ الفراقُ حبًا انتهى قبل أن يبدأ.

في ذلك الوقت، كان الخليفة عبد الرحمن الناصر تطوف به الشواغل حول ولي عهده الحكم المستنصر الذي لم يُنجب حتى الآن، لذا قرر أن يُهدي إليه جارية جميلة تُدعى صُبح البشكانشية – القادمة من دار المدنيات – على أمل أن تلد له ولي العهد.

يصف المؤرخ إبراهيم بيضون العلاقة بين الأمير الأموي والجارية في كتابه «الدولة العربية في إسبانيا» بالقول: «وصلت إلى قلب المستنصر وعقله، لكن كان أكثر ما يستهويها هو بريق الخلافة وحياة القصور، أما الجانب الآخر في حياة المستنصر القارئ النهم حتى الإدمان فلم يجذبها إليه»، ويبدو جليًا أنّ الأمير الأموي والشاب الريفي تشابها في حبهما لامرأة واحدة، وثقافتهما الاستثنائية، وطلبهما للسُلطة، وهي المفارقات التي لم يدركها أصحابها في ذلك التوقيت.

على أبواب الزهراء.. حُلمٌ سبق صاحبه للداخل

عجبـتُ، وقد ودّعـتُها، كيـف لم أمـتْ **  وكيف انثنتْ عند الفراقِ يدي معي

فيا مُقلتي العبرى عليها اسكبي دمًا **  ويا كبدي الحرّي عليها تقطعي

*شعر للحكم المستنصر أنشده في زوجته حين اشتاق لها في إحدى غزواته

كانت الدولة الأموية في عهد الخليفة عبد الرحمن الناصر تنتهي عند حدود ممالك الشمال المسيحية، التي تتربص موت الخليفة للانقضاض على أملاكها القديمة، لكنّ الأندلس لم يكن مُحاصرًا من الشمال فقط؛ فالفاطميون نجحوا في تأسيس دولة لهم في المغرب على أساس شيعي امتدت لاحقًا إلى القاهرة وصمدت قرنًا من الزمان، بينما كانت الخلافة العباسية في بغداد تشهد طلائع الانهيار الداخلي ولم يشغلها ذلك عن عداء الأندلسيين، تزامنًا مع قيام الدولة الطاهرية في خُراسان.

بقيت قُرطبة وحيدة حاضرة الدنيا وجنتها بمدينتها «الزهراء»، لكنّ الوضع السياسي الداخلي كان يشهد تنافس القبائل العربية الذين طالما ثاروا على السُلطة المركزية للدولة، لذا كان الحل منذ جاء المؤسس الأول للدولة عبد الرحمن الداخل عام 128 هجريًا، هو الاستعانة بالصقالبة – العبيد – ليكونوا خدمًا وجندًا، في سياسة تحفظ توازن الحُكم.

 

التعليقات على خبر: الحاجب المنصور الذي حكم الأندلس ربع قرن دون أن يعتلي كرسي الخلافة!

حمل التطبيق الأن